عند عبد القاهر الجرجاني
محمود توفيق محمد سعد
إذا ما كان الإمام عبد القاهر مستفتحاً كتابه "دلائل الإعجاز" ببيان فضل العلم، ومنزلة علم البيان من هذا الفضل، وأنه على الرغم من رسوخ أصله وبسوق فرعه، لم يلق علم من الضيم ما لقي ذلك العلم، فإنه قد أبان أنّ في هذا العلم دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر، ولطائفَ مستقاها العقلُ، وخصائصَ معانٍ ينفرد بها قوم قد هُدوا إليها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام.
وهو من بعد ذلك يبين فضل العلم بالشعر الذي هو ميدان التصوير، وفضل العلم بالنحو الذي هو أساس البناء، ثمَّ يدلف إلى بيان جوهر البلاغة، فيقرر أنه منذ خدم العلم نظر في كلام أهل العلم في معنى البلاغة والفصاحة، فوجد كلامهم ضربين:
الأول: نَهَجَ فيه أصحابه نهج الإيماء والرمز، فهو يدلك على المعنى دلالةَ إشارةٍ وإلاحة.
والآخر: نَهَجَ فيه أهله بيان الموطن دون دلالة على الشيء نفسه؛ حثاً على السعي إليه بنفسك: ((ولم أزل منذ خدمت العلم، أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعضَ ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضَه كالتنبيه على مكانِ الخبيء ليطلب، وموضعِ الدفين ليبحث عنه، فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها …)). الدلائل: 34. فهم بين مشير يبعثك على إحالة التلميح تصريحاً، ودالٍ على مكان الشيء دون أن يبينه لك تصريحاً أو تلويحاً. ثم بيّن أنه قد انتهى من النظر في إشارات من أشَار و أومأ وألاح، ومن النظر فيما دلَّ على المكان فبحث فيه، وانتهى من ذلك إلى أمر ذي شأن؛ انتهى إلى أنَّ المعول عليه في شأن معنى بلاغة الخطاب وفصاحته (أدبيّته) أنَّ ههنا: نظماً وترتيباً وتأليفاً وتركيباً، وأن ههنا صياغة وتصويراً ونسجاً وتحبيراً. وانتهى إلى أن هذه الخصال الثمانية في شأن الكلام سبيلها في شأن الصناعات، إلا أنها في الصناعات حقيقة، وفي الكلام مجاز. فهي قائمة في الصناعات اليدوية على سبيل الحقيقة الفعلية، ولكنها في الكلام على سبيل المجاز، وبرغم من ذلك فإنّ معيار المفاضلة بين هذه السمات الثمانية في الكلام هو هو عيارها في الصناعات. انظر: الدلائل: 35.
وأنت إذا ما نظرت في هذه الثمانية ترى أنها بدأت بالنظم وانتهت بالتحبير، وأن الإمام قد نسقها على نحو لم يقع منه في أي موطن من كتابه "دلائل الإعجاز" ولا غيره، وأنت إذا نظرت في نسقها رأيت في توقيعها النغمي توازناً؛ (نظم وترتيب)، (تأليف وتركيب)،(صياغة وتصوير)، (نسج وتحبير). وهذا النسق ترى فيه تصاعداً يشير إلى منازل هذه السمات من بلاغة الخطاب، فمبدأ بلاغته: النظم، ومنتهاها: التحبير.
وهذه السمات الثمانية لبلاغة الكلام قسمان، كل قسم أربع سمات، وكل قسم ضربان:
القسم الأول: سمات البناء: النظم والترتيب، والتأليف والتركيب. فالأول والثاني يمثلان درجة الجوار بين عناصر الكلام البليغ: (علاقة ظاهرية)، والثالث والرابع يمثلان درجة الحوار بين عناصر الكلام البليغ: (علاقة باطنية) القسم الثاني: سمات التصوير: الصياغة والتصوير، والنسج والتحبير. فالأول والثاني يمثلان درجة السبك (صناعة المعادن) والرسم، والثالث والرابع يمثلان درجة الحبك (صناعة النسيج) والنقش.
البناء مبدؤه: "نظم"، ومنتهاه: "تركيب". والتصوير مبدؤه: "صياغة"، ومنتهاه: "تحبير". فالتناسق التصاعدي ظاهر للعيان في جمع وتنفيذ هذه السمات على هذا النحو في ذلك الموضع الفريد، الذي لم يتكرر مثله في أي موطن من كتبه. وهذه السمات الثمانية جامعة لما يعرف بتمام بلاغة الخطاب، ولما به عمود بلاغته، كما سيأتي.
وهو إذْ يشير إلى أنَّ هذا قائم في مقالة العلماء في بيان معنى البلاغة وجوهرها، وكان حقه أن يكون كافياً، فإنه يصرح بأنه قد وجده على خلاف ما حسب، فما يزال كثير في حاجة حوجاء عظيمة إلى تفصيل وتبيين.
وهو يؤكد أنّ الإجمال في تفسير الفصاحة غير كاف في معرفتها، وغير مغن في العلم بها الآن، فشأن الفصاحة شأن الصناعات كلها، فكما أنه لا يكفيك أن يقال لك: النسج هو ترتيب للغزل على وجه مخصوص، وضمّ لطاقات الإبرسيم بعضها إلى بعض على طرق شتى، فإنَّ ذلك لا يوقفك على حقيقة النسج وطريقته، فالأمر كمثله في شأن نظم الكلام وبلاغته. انظر: الدلائل: 36.
ومن ثمَّ قرر الإمام عبد القاهر ضرورة المنهج التحليلي في شأن العلم بالبلاغة، فهو من أكثر العلوم اقتضاء إلى التفصيل والتحليل، فالبلاغة لا يكفي ((أن تنصب لها قياساً ما، وأن تصفها وصفاً مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون معرفتها في شيء حتى تفصِّل القول وتحصِّل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئاً شيئاً، وتكون معرفتك معرفة الصَّنَعِ الحاذق، الذي يعلم علم كل خيط من الإبرسيم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطَّع، وكل آجُرَّة من الآجُرّ الذي في البناء البديع)).
ويقول في موطن آخر: ((واعلم أنك لا تشفي العلة، ولا تنتهي إلى ثلج اليقين، حتى تتجاوز حَدَّ العلم بالشيء مجملاً إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكانه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته، ومجرى عروق الشجر الذي هو فيه)). وتحقيق ذلك التفصيل مقتض صبراً جميلاً على التَّأمل، وإدماناً حميداً على التدبر، فإن المطمح نبيل والمستشرف جميل.
وهو إذْ قرر فريضة المنهج التحليلي في النظر البلاغي والنقديّ، يقرر معه فريضة التأويل الموضوعي للسمات البيانية للخطاب، ولا يقنع بالتعليلات والتوجيهات الانطباعية الذاتية التي لا تتولد من رؤية موضوعية لمقومات فصاحة الخطاب. يقول: ((وجملة ما أردت أن أبينه لك: أنه لابد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل))).
وهو في تقريره فريضة التأويل الموضوعي والإبانة عن العلل يعلم أنه ما كل واحد بالقادر على الوفاء بتمام ذلك، وهذا لا يدعو إلى أن يترك النظر كلية لعدم الوفاء بالتمام: ((واعلم أنه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل، وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه، وإن قلّ، فتجعله شاهداً فيما لم تعرف، أحرى من أن تسُدَّ باب المعرفة على نفسك وتأخذها عن الفهم والتفهم وتعودها الكسل والهوينا))
موضوعية التأويل والتذوق تصاحبها ـ عند الإمام ـ قابليتها للإبانة عن ثمارها إبانة تهدي إلى مواطن الجمال وأسبابه.
كأني بالإمام عبد القاهر ناظر بعين ناقدة إلى مقالة "الآمدي" في "الموازنة"، ومقالة القاضي الجرجاني في "الوساطة" في شأن مواقع الكلام في النفس، وأن من الحسن مالا تمكن الإبانة عن أسبابه ومعالمه. يقول الآمدي: ((ألا ترى أنَّه قد يكون فرسان سليمين من كل عيب، موجود فيهما سائر علامات العتق والجودة والنجابة، ويكون أحدهما أفضل من الآخر بفرق لا يعلمه إلاّ أهل الخبرة والدربة الطويلة، وكذلك الجاريتان البارعتان في الجمال المتقاربتان في الوصف السليمتان من كل عيب، قد يفرق بينهما العالم بأمر الرقيق، حتى يجعل بينهما في الثمن فضلاً كبيراً، فإذا قيل له وللنخاس: من أين فضلت أنت هذه الجارية على أختها؟ ومن أين فضلت أنت هذا الفرس على صاحبه؟ لم يقدر على عبارة توضح الفرق بينهما، وإنما يعرفه كل واحد بطبعه وكثرة دربته وطول ملابسته. فكذلك الشعر قد يتقارب البيتان الجيدان النادران، فيعلم أهل العلم لصناعة الشعر أيهما أجود إن كان معناهما واحداً وأيهما أجود في معناه إن كان معناه مختلفاً)).
وكمثله يذهب القاضي إلى أنه قد تكون صورتان حسيتان استوفت إحداهما أوصاف الكمال، والأخرى من دونها في انتظام المحاسن وهي أحظى بالحلاوة، وأعلق بالنفس، ((ثم لا تعلم وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت لهذه المزية سبباً ولما خصت به مقتضياً … كذلك الكلام ... تجد منه المحكم الوثيق ... قد هُذِّب كل التهذيب ... ثم تجد لفؤادك عنه نبوة)).
الذي هو أبين عندي أنّ معالم الحسن في البيان درجات: منها ما يبلغ شأناً لا تكاد الألسنة قادرة على الإفصاح عن سببه؛ لعلو قدره وسمو شرفه، فهو مما يتبينه القلب ولا يجد اللسان قدرة على الإيضاح عن تلك الدرجة من الحسن والجمال، أما مادون ذلك فإنها غير مستعصية على التعليل والتبيين معاً. وأنت إذا ما كشفت أسباب كثير من درجات الحسن، وبقيت منه درجة لشرفها وسموها لا يطاق الإفصاح عنها، فليس ذلك من التذوق الانطباعي في شيء.
والإمام عبد القاهر نفسه يقع تحت سلطان هذا، فهو لا يعلل أحياناً ولا يبين عن العلة، وأحياناً يحيلنا على ما نجد في أنفسنا من غير أن يضع يده أو أيدينا على معالم الحسن وأسبابه، وهذا ظاهر لمن يتلو كتابيه "الدلائل" و"الأسرار".
المهم أن الإمام عبد القاهر بنى منهجه في الوقوف على ما به تمام بلاغة الخطاب وفصاحته (أدبيته/ شعريته)، وما به عمود تلك البلاغة، على التحليل والتفصيل، وعلى التذوق والتأويل الموضوعي، والتحاشي من الانطباع الذاتي غير القائم على معرفة موضوعية.
وإذا ما كان الإمام قد نسق سمات بلاغة الخطاب وفصاحته، كما رآها في مقالة العلماء في معنى البلاغة والفصاحة نسقاً جامعاً بين ما هو محقق لبلاغة الخطاب تمامَها وعمودَه، ولم يرتض الوقوف عند البيان الخفي المجمل، ودعا إلى التفصيل والتبيين في الأمرين معاً؛ فإنه قد بدأ بتفصيل مقومات بلاغة الخطاب، وتبيين الطريق إلى تحقيقها.
محمود توفيق محمد سعد
إذا ما كان الإمام عبد القاهر مستفتحاً كتابه "دلائل الإعجاز" ببيان فضل العلم، ومنزلة علم البيان من هذا الفضل، وأنه على الرغم من رسوخ أصله وبسوق فرعه، لم يلق علم من الضيم ما لقي ذلك العلم، فإنه قد أبان أنّ في هذا العلم دقائق وأسراراً طريق العلم بها الروية والفكر، ولطائفَ مستقاها العقلُ، وخصائصَ معانٍ ينفرد بها قوم قد هُدوا إليها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام.
وهو من بعد ذلك يبين فضل العلم بالشعر الذي هو ميدان التصوير، وفضل العلم بالنحو الذي هو أساس البناء، ثمَّ يدلف إلى بيان جوهر البلاغة، فيقرر أنه منذ خدم العلم نظر في كلام أهل العلم في معنى البلاغة والفصاحة، فوجد كلامهم ضربين:
الأول: نَهَجَ فيه أصحابه نهج الإيماء والرمز، فهو يدلك على المعنى دلالةَ إشارةٍ وإلاحة.
والآخر: نَهَجَ فيه أهله بيان الموطن دون دلالة على الشيء نفسه؛ حثاً على السعي إليه بنفسك: ((ولم أزل منذ خدمت العلم، أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعضَ ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضَه كالتنبيه على مكانِ الخبيء ليطلب، وموضعِ الدفين ليبحث عنه، فيخرج، وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها …)). الدلائل: 34. فهم بين مشير يبعثك على إحالة التلميح تصريحاً، ودالٍ على مكان الشيء دون أن يبينه لك تصريحاً أو تلويحاً. ثم بيّن أنه قد انتهى من النظر في إشارات من أشَار و أومأ وألاح، ومن النظر فيما دلَّ على المكان فبحث فيه، وانتهى من ذلك إلى أمر ذي شأن؛ انتهى إلى أنَّ المعول عليه في شأن معنى بلاغة الخطاب وفصاحته (أدبيّته) أنَّ ههنا: نظماً وترتيباً وتأليفاً وتركيباً، وأن ههنا صياغة وتصويراً ونسجاً وتحبيراً. وانتهى إلى أن هذه الخصال الثمانية في شأن الكلام سبيلها في شأن الصناعات، إلا أنها في الصناعات حقيقة، وفي الكلام مجاز. فهي قائمة في الصناعات اليدوية على سبيل الحقيقة الفعلية، ولكنها في الكلام على سبيل المجاز، وبرغم من ذلك فإنّ معيار المفاضلة بين هذه السمات الثمانية في الكلام هو هو عيارها في الصناعات. انظر: الدلائل: 35.
وأنت إذا ما نظرت في هذه الثمانية ترى أنها بدأت بالنظم وانتهت بالتحبير، وأن الإمام قد نسقها على نحو لم يقع منه في أي موطن من كتابه "دلائل الإعجاز" ولا غيره، وأنت إذا نظرت في نسقها رأيت في توقيعها النغمي توازناً؛ (نظم وترتيب)، (تأليف وتركيب)،(صياغة وتصوير)، (نسج وتحبير). وهذا النسق ترى فيه تصاعداً يشير إلى منازل هذه السمات من بلاغة الخطاب، فمبدأ بلاغته: النظم، ومنتهاها: التحبير.
وهذه السمات الثمانية لبلاغة الكلام قسمان، كل قسم أربع سمات، وكل قسم ضربان:
القسم الأول: سمات البناء: النظم والترتيب، والتأليف والتركيب. فالأول والثاني يمثلان درجة الجوار بين عناصر الكلام البليغ: (علاقة ظاهرية)، والثالث والرابع يمثلان درجة الحوار بين عناصر الكلام البليغ: (علاقة باطنية) القسم الثاني: سمات التصوير: الصياغة والتصوير، والنسج والتحبير. فالأول والثاني يمثلان درجة السبك (صناعة المعادن) والرسم، والثالث والرابع يمثلان درجة الحبك (صناعة النسيج) والنقش.
البناء مبدؤه: "نظم"، ومنتهاه: "تركيب". والتصوير مبدؤه: "صياغة"، ومنتهاه: "تحبير". فالتناسق التصاعدي ظاهر للعيان في جمع وتنفيذ هذه السمات على هذا النحو في ذلك الموضع الفريد، الذي لم يتكرر مثله في أي موطن من كتبه. وهذه السمات الثمانية جامعة لما يعرف بتمام بلاغة الخطاب، ولما به عمود بلاغته، كما سيأتي.
وهو إذْ يشير إلى أنَّ هذا قائم في مقالة العلماء في بيان معنى البلاغة وجوهرها، وكان حقه أن يكون كافياً، فإنه يصرح بأنه قد وجده على خلاف ما حسب، فما يزال كثير في حاجة حوجاء عظيمة إلى تفصيل وتبيين.
وهو يؤكد أنّ الإجمال في تفسير الفصاحة غير كاف في معرفتها، وغير مغن في العلم بها الآن، فشأن الفصاحة شأن الصناعات كلها، فكما أنه لا يكفيك أن يقال لك: النسج هو ترتيب للغزل على وجه مخصوص، وضمّ لطاقات الإبرسيم بعضها إلى بعض على طرق شتى، فإنَّ ذلك لا يوقفك على حقيقة النسج وطريقته، فالأمر كمثله في شأن نظم الكلام وبلاغته. انظر: الدلائل: 36.
ومن ثمَّ قرر الإمام عبد القاهر ضرورة المنهج التحليلي في شأن العلم بالبلاغة، فهو من أكثر العلوم اقتضاء إلى التفصيل والتحليل، فالبلاغة لا يكفي ((أن تنصب لها قياساً ما، وأن تصفها وصفاً مجملاً، وتقول فيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون معرفتها في شيء حتى تفصِّل القول وتحصِّل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئاً شيئاً، وتكون معرفتك معرفة الصَّنَعِ الحاذق، الذي يعلم علم كل خيط من الإبرسيم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطَّع، وكل آجُرَّة من الآجُرّ الذي في البناء البديع)).
ويقول في موطن آخر: ((واعلم أنك لا تشفي العلة، ولا تنتهي إلى ثلج اليقين، حتى تتجاوز حَدَّ العلم بالشيء مجملاً إلى العلم به مفصلاً، وحتى لا يقنعك إلا النظر في زواياه والتغلغل في مكانه، وحتى تكون كمن تتبع الماء حتى عرف منبعه، وانتهى في البحث عن جوهر العود الذي يصنع فيه إلى أن يعرف منبته، ومجرى عروق الشجر الذي هو فيه)). وتحقيق ذلك التفصيل مقتض صبراً جميلاً على التَّأمل، وإدماناً حميداً على التدبر، فإن المطمح نبيل والمستشرف جميل.
وهو إذْ قرر فريضة المنهج التحليلي في النظر البلاغي والنقديّ، يقرر معه فريضة التأويل الموضوعي للسمات البيانية للخطاب، ولا يقنع بالتعليلات والتوجيهات الانطباعية الذاتية التي لا تتولد من رؤية موضوعية لمقومات فصاحة الخطاب. يقول: ((وجملة ما أردت أن أبينه لك: أنه لابد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل))).
وهو في تقريره فريضة التأويل الموضوعي والإبانة عن العلل يعلم أنه ما كل واحد بالقادر على الوفاء بتمام ذلك، وهذا لا يدعو إلى أن يترك النظر كلية لعدم الوفاء بالتمام: ((واعلم أنه ليس إذا لم تمكن معرفة الكل وجب ترك النظر في الكل، وأن تعرف العلة والسبب فيما يمكنك معرفة ذلك فيه، وإن قلّ، فتجعله شاهداً فيما لم تعرف، أحرى من أن تسُدَّ باب المعرفة على نفسك وتأخذها عن الفهم والتفهم وتعودها الكسل والهوينا))
موضوعية التأويل والتذوق تصاحبها ـ عند الإمام ـ قابليتها للإبانة عن ثمارها إبانة تهدي إلى مواطن الجمال وأسبابه.
كأني بالإمام عبد القاهر ناظر بعين ناقدة إلى مقالة "الآمدي" في "الموازنة"، ومقالة القاضي الجرجاني في "الوساطة" في شأن مواقع الكلام في النفس، وأن من الحسن مالا تمكن الإبانة عن أسبابه ومعالمه. يقول الآمدي: ((ألا ترى أنَّه قد يكون فرسان سليمين من كل عيب، موجود فيهما سائر علامات العتق والجودة والنجابة، ويكون أحدهما أفضل من الآخر بفرق لا يعلمه إلاّ أهل الخبرة والدربة الطويلة، وكذلك الجاريتان البارعتان في الجمال المتقاربتان في الوصف السليمتان من كل عيب، قد يفرق بينهما العالم بأمر الرقيق، حتى يجعل بينهما في الثمن فضلاً كبيراً، فإذا قيل له وللنخاس: من أين فضلت أنت هذه الجارية على أختها؟ ومن أين فضلت أنت هذا الفرس على صاحبه؟ لم يقدر على عبارة توضح الفرق بينهما، وإنما يعرفه كل واحد بطبعه وكثرة دربته وطول ملابسته. فكذلك الشعر قد يتقارب البيتان الجيدان النادران، فيعلم أهل العلم لصناعة الشعر أيهما أجود إن كان معناهما واحداً وأيهما أجود في معناه إن كان معناه مختلفاً)).
وكمثله يذهب القاضي إلى أنه قد تكون صورتان حسيتان استوفت إحداهما أوصاف الكمال، والأخرى من دونها في انتظام المحاسن وهي أحظى بالحلاوة، وأعلق بالنفس، ((ثم لا تعلم وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت لهذه المزية سبباً ولما خصت به مقتضياً … كذلك الكلام ... تجد منه المحكم الوثيق ... قد هُذِّب كل التهذيب ... ثم تجد لفؤادك عنه نبوة)).
الذي هو أبين عندي أنّ معالم الحسن في البيان درجات: منها ما يبلغ شأناً لا تكاد الألسنة قادرة على الإفصاح عن سببه؛ لعلو قدره وسمو شرفه، فهو مما يتبينه القلب ولا يجد اللسان قدرة على الإيضاح عن تلك الدرجة من الحسن والجمال، أما مادون ذلك فإنها غير مستعصية على التعليل والتبيين معاً. وأنت إذا ما كشفت أسباب كثير من درجات الحسن، وبقيت منه درجة لشرفها وسموها لا يطاق الإفصاح عنها، فليس ذلك من التذوق الانطباعي في شيء.
والإمام عبد القاهر نفسه يقع تحت سلطان هذا، فهو لا يعلل أحياناً ولا يبين عن العلة، وأحياناً يحيلنا على ما نجد في أنفسنا من غير أن يضع يده أو أيدينا على معالم الحسن وأسبابه، وهذا ظاهر لمن يتلو كتابيه "الدلائل" و"الأسرار".
المهم أن الإمام عبد القاهر بنى منهجه في الوقوف على ما به تمام بلاغة الخطاب وفصاحته (أدبيته/ شعريته)، وما به عمود تلك البلاغة، على التحليل والتفصيل، وعلى التذوق والتأويل الموضوعي، والتحاشي من الانطباع الذاتي غير القائم على معرفة موضوعية.
وإذا ما كان الإمام قد نسق سمات بلاغة الخطاب وفصاحته، كما رآها في مقالة العلماء في معنى البلاغة والفصاحة نسقاً جامعاً بين ما هو محقق لبلاغة الخطاب تمامَها وعمودَه، ولم يرتض الوقوف عند البيان الخفي المجمل، ودعا إلى التفصيل والتبيين في الأمرين معاً؛ فإنه قد بدأ بتفصيل مقومات بلاغة الخطاب، وتبيين الطريق إلى تحقيقها.