قراءة في قصيدة *فجر الروح *للشاعر الجزائري :ابراهيم بشوات
فجر الروح هو عنوان لقصيدة كتبها الشاعر ابراهيم بشوات كان لها شرف الدخول ضمن ديوان الأم الذي دعت اليه احدى القنوات الفضائية التي تذيع برامجها من لندن :هي قناة المستقلة ،وحسب علمي فإن القصيدة هي الآن ترقد في رهيف ديوان الام تمنيت لو كان لي شرف قراءته .
فَجْرُ :
الفَجْرُ : انكشافُ ظلمةِ الليل عن نور الصُّبْح .
وهما فَجْرَانِ : أَحدهما : المستطيلُ ، وهو الكاذبُ : والآخر : المستطيرُ المنتشرُ الأُفُقِ ، وهو الصادقُ .
ويقال : طريقٌ فَجْرٌ : واضحٌ .
الرُّوحُ : ما به حياة
وقد أضاف الشاعر الفجر الى الروح ،حيث استخدم كلمة من الطبيعة الجامدة فصارت كأن بها حياة أي أن فجر=الطبيعة-جامدة- ،الروح=الحياة -حية-فجر من لوازم الطبيعة ،والروح لازم من لوازم كل مابه حياة فما علا قة هذا بذاك؟
رغم أن الروح تظاهي الفجر من حيث الحياة والحركة والقدرة إلا أن الشاعر جعلها مضافا اليه هذه هي البنية السطحية لهذا العنوان ،لكن كيف هي البنية العميقة ؟والدلالة التي يجثم عليها هذا العنوان ؟
صعب من الوهلة الأولى أن تصل إلى تفكيك هذه الشيفرة، فتلك هي سمة الشعر الحديث وبالتالي تزداد القراءة صعوبة كلما كانت الدلالات عائمة داخل نسيج النص الحديث.
لننظر إلى هذا العنوان من جهته التركيبية ونرى،فجر خبر لمبتدأ محذوف هذا ،هذه ،هو،هي وهو مضاف والروح مضاف اليه ومن هنا يتبين أن الشاعر قد استعار سمة من سمات الطبيعة ليشبه بها ما سيقوله في المتن متن القصيد،والموجود في المتن بهذه الاستعارة البعيدة الجميلة صار بمثابة انكشاف ظلمة الليل عن نور الصباح وإذا ذهبت ظلمة الليل سيتضح الطريق ثم أن الشاعر أراد بهذه الاستعارة أن لا تعود للمستعارمنه لأنه يريد لمن سيتحدث عنه في المتن أن يكون فجرا دائما ونورا دائما وبالتالي ديمومة وضوح الطريق.
لم يكتب الشاعر قصيدة فجر الروح لذاته ولم ينسب الفجر إلى روحه
إنه ينسبه إلى الروح أي روح وإلا لقال :فجر روحي وبالتالي يكون هذا الفجر مخصوصا أي خاصته هو لوحده إنه -الشاعر- يكتب بلسان الكل لكن ليس بلغتهم ومن هنا يكون الخطاب عالمي إنساني ويحق لنا الآن أن نسأل:هل يتعادل عنوان القصيدة مع القصيدة ويكون هذا الفجر كاشفا عن الظلمة الى فجر جديد منير ؟ثم هل يستحق هذا الفجر المأخوذ ةمن الطبيعة أن يكون دربا وسراجا ينير الطريق وروحا جديدة لهذه الروح روح الشاعر ،وروح كل من وجه اليه هذا الخطاب؟.
لذلك فكرت في استكمال هذا التحليل البنيوي للقصيدة *فجر الروح* بما له القدرة أكثر على الوصول إلى دلالة النص وهو المستوى الصوتي والايقاعي كي أشفي ربما غليل
الذين عابوا الدراسة التي ذكرناها .
إثرالغوص في بنية العنوان السطحية منها والعميقة سأحاول قراءة هذا النص الشعري الثري وفق منهجين :المنهج البنوي والأسلو بي -التحليل بالمستو يات- معا لكن يحق للقارئ أن يتساءل لماذا هذا الاختيار وهذه القراءة بهذه الطريقة؟.
عندما قرأت لكمال أبو ديب وكيف وظف في دراسته التحليلية -الرؤى المقنعة- وجدلية -الخفاء والتجلي- ووقوفه في القصيدة عند الثنائيات الضدية واللفظية،رأيت بعض الذين لاحظوا غياب بقية المستويات الصوتية والإيقاعية لما لهل علاقة بدلالة النص يتحفظون على هذه الدراسة .
لذلك فكرت في استكمال هذا التحليل البنيوي للقصيدة *فجر الروح* بما له القدرة أكثر على الوصول إلى دلالة النص وهو المستوى الصوتي والايقاعي كي أشفي ربما غليل
الذين عابوا الدراسة التي ذكرناها .
القصيدة
قصيدة فجر الروح للشاعر ابراهيم بشوات
أَحَقًّا هُنَا يَا أُمُّ يَرْسُمُكِ الشِّعْرُ= وَإِنْ كَانَ يَسْقِيهِ مِنَ اللُّغَةِ الْبَحْرُ
أَظُنُّ رَقِيقَ الشِّعْرِ مُنْذُ مُهَلْهِلٍ =إِلَى عَصْرِنَا بِالْكَادِ يُنْصِفُهُ الْعُشْرُ
أَرَى اللُّغَةَ الْعَصْمَاءَ تَعْجَزُ حِينَمَا= أَجِيئُكِ مُحْتَارًا فَيَحْضُنُنِي الصَّدْرُ
إِذَا امْتَدَّ بِي لَيْلٌ وَأَرَّقَ فِكْرَتِي= وَوَاعَدَنِي فَجْرٌ فَأَنْتِ هِيَ الْفَجْرُ
وَلَسْتُ أَخَافُ الْحَادِثَاتِ تُحِيطُ بِي= فَفِي مُقْلَتَيْكِ طَالَمَا كُتِبَ النَّصْرُ
لَعَلَّكِ مُنْذُ الْبَدْءِ أَحْلَى قَصِيدَةٍ =وَأَجْمَلُ مَا فِي الدَّهْرِ لَوْ يُدْرِكُ الدَّهْرُ
تَوَقَّفَ هَذَا الدَّهْرُ فِي رَقْمِ تِسْعَةٍ= لِيَعْرِفَ كَيْفَ الشَّهْرُ يَخْلُفُهُ شَهْرُ
وَوَهْنًا عَلَى وَهْنٍ حَمَلْتِ مَتَاعِبِي= ثِقَالًا يُغَذِّي عُسْرَهَا الْحَرُّ وَالْقَرُّ
وَلَكِنَّهَا يَا أُمُّ رِحْلَةُ مَوْعِدٍ= وَتَدْرِينَ أَنَّ الْعُسْرَ يَخْلُفُهُ يُسْرُ
حَيَاتَانِ يَا أُمَّاهُ أَثْمَرَ فِيهِمَا= بَرِيقٌ مِنَ الْآمَالِ وَانْتَصَرَ الصَّبْرُ
وَغَنَّتْكِ آهٌ ثُمَّ آهٌ وَأَنَّةٌ= وَمُعْجِزَةٌ مِنْهَا أَضَاءَ لَكِ الْبَدْرُ
وَفِي حُضْنِكِ الْحَانِي زُرِعْتُ خَمِيلَةً= أَضَاءَتْ جَمَالاً حِينَ قَبَّلَنِي الثَّغْرُ
سَقَانِي مَدَى الْحَوْلَيْنِ صَدْرُكِ خَيْرَهُ= وَحِينَ يَجُودُ الصَّدْرُ كَمْ يَكْثُرُ الْخَيْرُ
تَعَلَّمْتُ فِي أَحْضَانِكِ اللَّهْوَ صَافِيًا= وَحَلَّقْتُ حَتَّى غَارَ مِنْ أُفْقِيَ النّسْرُ
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ تُغْدِقِينَ سَعَادَةً =وَتَتْلِينَ آيَ اللهِ إِنْ حَسَدَ الْغَيْرُ
أَرَى مَاءَ وَجْهِي مِنْ سَوَاقِيكِ عَذْبُهُ= إِذَا ظَمِئَ الزَّيْتُونُ هَلْ يَبْخَلُ النَّهْرُ
كَتَبْتُ رَقِيقَ الشِّعْرِ عَنْكِ وَهَا أَنَا= عَلَى الصَّفْحَةِ البَيْضَاءِ يُعْوِزُنِي الْحِبْرُ
وَإِنْ هِيَ إِلاَّ نَغْمَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا= أُرَدِّدُ شِعْرًا فِيهِ يُخْتَصَرُ الْعُمْرُ
تَمُرُّ بِكِ الْأَيَّامُ لَكِنْ أُحِسُّهَا= عَلَى مَضَضٍ تَمْضِي، وَهَلْ عِنْدَهَا عُذْرُ
أَجَلْ، إِنَّهَا لَمَّا رَأَتْكِ تَعَلَّمَتْ= أَنِينَ فُؤَادٍ حِينَ يُرْهِقُهُ الْهَجْرُ
حَبِيبَةَ قَلْبِي أَنْتِ أَجْمَلُ قِصَّةٍ =عَنِ الْحُبِّ لَكِنْ لَيْسَ يَعْرِفُهَا الْفِكْرُ
أَرَانِي إِذَا وَلَّيْتُ وَجْهِيَ شَطْرَهَا= لِأَكْتُبَهَا لَمْ يَعْرِفِ الْقِبْلَةَ السَّطْرُ
وَيَحْلُو مَذَاقُ الرُّوحِ فِي كُلِّ نَبْضَةٍ= تُذَكِّرُنِي بِالْحُلْوِ يَصْنَعُهُ الْمُرُّ
وَوَصَّى بِكِ الْمَبْعُوثُ لِلنَّاسِ رَحْمَةً= ثَلَاثًا فَزَادَ الشَّأْنُ وَارْتَفَعَ الْقَدْرُ
وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُسْتَهْتِرِينَ تَعَلُّلٌ= وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَاصِينَ فِي ذَنْبِهِمْ عُذْرُ
وَغَايَةُ مَا أَرْجُو رِضَاكِ وَإِنَّهَا= لَجَائِزَةٌ يَحْظَى بِهَا الْوَلَدُ الْبَرُّ
هَدِيَّةُ حُبِّي يَا عَزِيزَةُ قُبْلَةٌ= تَغَنَّى بِهَا لِلْعَالَمِينَ ابْنُكِ الْبِكْرُ
إبراهيم بشوات 13 أوت 2010
يبدأ الشاعر بوضع الأم في الميزان ،حيث الأم في كفة واللغة في الكفة الأخرى، بهذه الثنائية الجميلة:- ثنائية المضاهات -يتساءل الشاعر عن مدى قدرة اللغة السطح المتمظهرة في القصيدة على
اخراج الأم كما يشتهي المتلقي العارف بحق قدرهاوذلك في تناص أجمل مع الشاعر الكبير حافظ إبراهيم ليكون الشاعر إبراهيم بشوات في هذا البيت بشوات حافظ .
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ*** فَهَلْ سَأَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفاتي
البيت للشاعر حافظ إبراهيم.
أحقا هنا يا أم يرسمك الشعر*** وإن كان يسقيه من اللغة البحر
البيت للشاعر إبراهيم بشوات.
وعندما ننتقل الى البيت الثاني من قصيدة فجر الروح للشاعر: إبراهيم بشوات ،وهو كما يلي:
أظن رقيق الشعر منذ مهلهل***إلى عصرنا بالكاد ينصفه العشر
قبل أن أتوغل لابد أن أترك بصمة شخصية لشاعرنا الكبير ككلمة أراها لابد منها فأقول:لقد أنصفت أمك يا إبراهيم بظنك في قدرة الشعر الذي يستطيع أن يصور تعظيمك لها ،فالشعر ديوان العرب كما يقال.
منذ الوهلة الأولى تظهر البنية الأولى للقصيدةحيث رغبة الشاعر كانت جامحة رغم الوضع الذي وضعت فيه الذات الشاعرة المعظمة لقدر الأم ومن هنا يمكن أن نقول أن البنية الأولى هي :بنية التعظيم والإشتياق.
توقفنا في الجزء الثالث من القراءة عند البنية الاولى: بنية التعظيم والاشتياق حيث أن الذات الشاعرة وضعت بين عظمة الأم و قدرة الشعر من عدمها على وصفها والحديث عن ماهيتها ، ويمكن لنا أن نضع المخطط الآتي للتوضيح أكثر:
الذات الشاعرة بين
عظمة الأم ................................................. قدرة الشعر من عدمها على وصف الأم
قدرة الشعر على وصفها ............................... رغبة الشاعر في البوح
إنه في الحقيقة صراع مشروع وقع فيه الشاعر فهو بين الأم التي حملته 9 أشهر ثم قامت بما يفترض بالام أن تقوم به ،لتهدي الذات الشاعرة الى فكرة قدرة الشعر على احتواء ما يختلج صدرها بالتمظهر في اللغة البحر الي ستسقي هذا الشعر دون شك .
أظن رقيق الشعر منذ مهلل*** إلى عصرنا بالكاد ينصفه العشر
فعشر العصر منذ مهلهل الى الآن ينصف الشعر ويعطيه الضوء الاخضر لأن ةيكون قادرا على احتواء أي غرض شعري كان لعل المهلهل الشاعر أيضا يعطي للشعر الاشارة والاجازة والمهلهل هو:
عدي بن ربيعة التغلبي الملقب الزير أبو ليلى المهلهل ، أحد فرسان قبيلة تغلب الذين كانت ديارهم في شمال شرق الجزيرة العربية وأطراف العراق والشام [1] وكان شاعرا يكنى بأبي ليلى بالمهلهل، وأحد أبطال العرب في الجاهلية وقد كان له من الذرية ابنتان هما: ليلى وعبيدة، فأما ليلى فهي أم الشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي، وأما عبيدة فهي أم قوم يقال لهم عبيدة من جنب من مذحج [2] وقال البعض أن الزير خال الشاعر امرئ القيس الكندي.
لقب عدي بن ربيعة بألقاب عديدة من أشهرها:
الزير
اختلف في اسمه فقيل أن اسمه سالم ولايعرف لهذا الاسم مصدر وقيل أن اسمه عدي كما ذكر في عدة قصائد منها قصيدته الشهيرة وهو في الأسر التي كانت سببا غير مباشر في مقتله والتي قال
طَـفـَلـة ما ابْنة المجللِ*** بـيضـاء لـعـوب لـذيذة في العناقِ
فاذهبي مـا إليك غـير بـعيد*** لايؤاتي العـناق مـن في الوثاقِ
ضربت نحرها إلى وقالت*** ياعديا، لقد وقـتك الأواقي
أما تسميته بالزير فقد سماه أخوه كليب (زير النساء) أي جليسهن.
المهلهل
وقد قيل لقب مهلهلا لأنه كان يلبس ثياباً مهلهلة، وقيل لقب بسبب قوله:
لما توغل في الكراع هجينهن هلهلت أثأر مالك أو سنبلا
كما يقال أنه لقب مهلهلا لأنه هلهل الشعر أي أرقّه وهو من الشعراء الكذبة لبيت قاله وهو :
ولولا الريح أسمع أهل حجرٍ صليل البيض تقرع بالذكور
قالت فيه ابنة أخيه وهي اليمامة بنت كليب لما قتل:
من مبلغ الحيين أَنّ مُهلهلا أَضحى قتيلاً في الفلاة مُجندَّلا
وفي رواية أخرى أنه لما عاد العبدين إلى ابن أخيه الهجرس وأخته اليمامة، قالا لهما أن عمهما قال أنشدهما هذا البيت:
من مبلغ الحيين أَنّ مُهلهلا لله دركما ودر أبيكما
فلم يفهم الهجرس مغزى البيتين فنادى اليمامة فلما قال لها العبدان البيتين صاحت وقالت عمي لا يقول أبياتاً ناقصة وإنما أراد أن يقول لنا;
من مبلغ الحيين أن مهلهلا*** أضحى قتيلاً في الفلآة مجندلا
لله دركما ودر أبـيــكما*** لا يبرح العبدان حتى يقتـلا
لقد بسطت في موضوع المهلهل عنوة كي يعرف المتلقي دلالة ذكره في قصيدة فجر الروح للشاعر إبراهيم بشوات.
لم يطل الشاعر طويلا في حسم إشكالية قدرة الشعر من عدمها على اتساعه للأم بدليل أن الحديث عن تلك الإشاكلية لم يتعد البيتين.
أحقا هنا يا أم يرسمك الشعر*** وإن كان يسقسه من اللغة البحر
أظن رقيق الشعر منذ مهلهل*** إلى عصرنا بالكاد ينصفه العشر
إن البنية الأولى لا تقف عند التعظيم والاشتياق -تعظيم الأم والرغبة الشديدة في البوح من خلال قصيدة عصماء تكرم الأم فثمة بنية أخرى ترقد تحتها وهي الثقة بالنفس التي تحلت بها الذات الشاعرة لما لها من تجربة شعرية طويلة وقدرة لغوية فائقة في الحديث عن أعظم مخلوق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأم .
ألم يك البيت الخالد لحافظ إبراهيم ذا قدرة على اعطاء الأم حقها كاملا غير منقوص حين قال حافظ إبراهيم:
الأم مــدرسـة إذا أعــددتـهـــا أعـددت شعبا طيب الأعــراق
الأم روض إن تعهــده الحيـــا بالـــريّ أورق أيمـــا إيــــراق
الأم أستــاذ الأساتــذة الألــــى شغلت مآثرهم مدى الآفـــــاق
هذا ما يختص بالبنية الأولى .
فالقصيدة في عمومها تنقسم إلى بنيتين أساسيتين :
1-بنية التعظيم
2-بنية الأم-فجر الروح-
لقد تساءلت في بداية هذه القراءة عن مدى اتصال العنوان بالمتن باعتياره في القصيدة الحديثة كالرأس من الجسد فلقد وفق الشاعر إلى حد كبير في جعل العنوان قصيدة أخرى .
فالعنوان هو *فجر الروح* وفجر الروح هو أمه ،وأمه في المتن بدليل أن الشاعر خصص لها السواد الأعظم من القصيدة 25بيتا والقصيدة تتألف من 27 بيتا.
استعمل الشاعر فيها معجم الأم ك : الصدر، رق9، وهنا على وهن، حملتني…..إلخ.
ففي البنية الثانية نجد ثنائية الحضور والغياب واضحة فالشاعر حينما كرم الأم في قصيدته فقد كرم أمه الغائبة لكنها حاضرة في أم المتلقي ،فقد ضرب عصفورين بحجر في قصيدته التكريمية
هكذا يفعل كل شاعر مجيد.
لقد كانت أبيات القصيدة مسرحا بين المتكلم والغائب .
أَرَانِي إِذَا وَلَّيْتُ وَجْهِيَ شَطْرَهَا= لِأَكْتُبَهَا لَمْ يَعْرِفِ الْقِبْلَةَ السَّطْرُ
فالضمير -ها-انما يدل على ذات غائبة ،ودليل غيابها هواضطراب الذات الشاعرة كلما ولت وجهها شطر امها كي تكتبها وعدم الكتابة يكفيها حضور الأم فحضورها وحده قصيدة
كَتَبْتُ رَقِيقَ الشِّعْرِ عَنْكِ وَهَا أَنَا= عَلَى الصَّفْحَةِ البَيْضَاءِ يُعْوِزُنِي الْحِبْرُ
اضطراب فا ضطراب يحدثه المخاطب -عنك- يقصد أمه ،مرة أخطأ السطر القبلة ، ومرة أخرى عاز الذات الشعر الحبر والسؤال هنا لم كل هذا الاضطراب لو كانت أمه حاضرة
أعتقد أن حضورها سيزيل كل هذه المعاناة لذلك كانت ضمائر المتكلم والغائب والمخاطب تهيمن على بنية النص مما يدل على الغياب الذي يسعفه الحضور ،غياب أم الشاعر وحضور أم المتلقي.
وَإِنْ هِيَ إِلاَّ نَغْمَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا= أُرَدِّدُ شِعْرًا فِيهِ يُخْتَصَرُ الْعُمْرُ
تَمُرُّ بِكِ الْأَيَّامُ لَكِنْ أُحِسُّهَا= عَلَى مَضَضٍ تَمْضِي، وَهَلْ عِنْدَهَا عُذْرُ
أَجَلْ، إِنَّهَا لَمَّا رَأَتْكِ تَعَلَّمَتْ= أَنِينَ فُؤَادٍ حِينَ يُرْهِقُهُ الْهَجْرُ
حَبِيبَةَ قَلْبِي أَنْتِ أَجْمَلُ قِصَّةٍ =عَنِ الْحُبِّ لَكِنْ لَيْسَ يَعْرِفُهَا الْفِكْرُ
هي،بها ،إنها كلها ضمائر للغائب وقد طغت على بنية النص .
-هذه هي بنية الخطاب الشعري في قصيدة فجر الروح ،سننتقل إلى المستويين الصوتي والإيقاعي للنص باعتبارهما عنصرين هامين لصلتهما بدلالة النص .
فقافية القصيدة رائية، والراء من الحروف المجهورة، وقد يطرح التساؤل عن مدى ملاءمتها لغرض تشكل اللذة إحدى خصائصه، وبالتالي فإن الحروف المهموسة تبدو أقرب إلى طبيعته، والراء هي الحرف أو الصوت المركز في القصيدة، وعملية إحصائية بسيطة تؤكد ذلك، تكرر حرف الراء في البيت الأول.
حَقًّا هُنَا يَا أُمُّ يَرْسُمُكِ الشِّعْرُ= وَإِنْ كَانَ يَسْقِيهِ مِنَ اللُّغَةِ الْبَحْرُ
أَظُنُّ رَقِيقَ الشِّعْرِ مُنْذُ مُهَلْهِلٍ =إِلَى عَصْرِنَا بِالْكَادِ يُنْصِفُهُ الْعُشْرُ
أَرَى اللُّغَةَ الْعَصْمَاءَ تَعْجَزُ حِينَمَا= أَجِيئُكِ مُحْتَارًا فَيَحْضُنُنِي الصَّدْرُ
إِذَا امْتَدَّ بِي لَيْلٌ وَأَرَّقَ فِكْرَتِي= وَوَاعَدَنِي فَجْرٌ فَأَنْتِ هِيَ الْفَجْرُ
فزيادة على كون صوت الراء كان للقافية فاننا نحصي تكرر هذا الصوت عدة مرات في هذه الأبيات وتقريبا في كامل الابيات ومعنى ذلك أن هذا الصوت قد تكرر 78مرة لأان الشاعر يريد للقصيدة أن تستقر
فالموقف جلل وعظيم بعظمة الام فتكرر صوت الراء أعطى للقصيدة استقرارا ملائما للموضوع فالشاعر يتلذذ بتعظيم أمه والأم.
-البحر الطويل قد نظم منه ما يقرب من ثلث الشعر العربي، وأنه الوزن الذي كان القدماء يؤثرونه على غيره ويتخذونه ميزاناً لأشعارهم، ولا سيما في الأغراض الجدية الجليلة الشأن […]. ثم نرى كلاً من الكامل والبسيط يحتل المرتبة الثانية في نسبة الشيوع، وربما جاء بعدهما كل من الوافر والخفيف، وتلك هي البحور الخمسة التي ظلت في كل العصور موفورة الحظ يطرقها كل الشعراء، ويكثرون النظم منها، وتألفها آذان الناس في بيئة اللغة العربية” .
لذلك اتكأت القصيدة على البحر الطويل ،فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن.
يقول أبو هلال العسكري: “وإذا أردت أن تعمل شعراً فأحضر المعاني التي تريد ينظمها فكرك وأخطرها على قلبك، واطلب لها وزناً يتأتى فيه إيرادها وقافية يحتملها.. فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية ولا تتمكن منه في أخرى.. أو تكون في هذه أقرب طريقاً وأيسر كلفة منه في تلك.. ولأن تعلو الكلام فتأخذه من فوق فيجيء سلساً سهلاً ذا طلاوة ورونق خير من أن يعلوك فيجيء، قفراً فجاً ومنتجعاً جلفاً..”
لقد منح الشاعر هذا البحر امتيازا بقيمة ابداعه الشعري وقدرته على توظيف هذا البحر توظيفا موفقا وايجابيا للتعبير عن أحاسيسه تجاه أمه الغائبة الحاضرة فزيادة على كون هذا البحر مناسبا للمواضيع الجليلة كموضوع الام فإن له هيبة تتشكل من اصغاء المتلقي الذي يحس بموسيقاه العذبة التي تطرب الاذن فيزيد القصيدة جمالا على جمالها.
تمت :بقلم الاستاذ الشاعر :عمري الطاهر.
فجر الروح هو عنوان لقصيدة كتبها الشاعر ابراهيم بشوات كان لها شرف الدخول ضمن ديوان الأم الذي دعت اليه احدى القنوات الفضائية التي تذيع برامجها من لندن :هي قناة المستقلة ،وحسب علمي فإن القصيدة هي الآن ترقد في رهيف ديوان الام تمنيت لو كان لي شرف قراءته .
فَجْرُ :
الفَجْرُ : انكشافُ ظلمةِ الليل عن نور الصُّبْح .
وهما فَجْرَانِ : أَحدهما : المستطيلُ ، وهو الكاذبُ : والآخر : المستطيرُ المنتشرُ الأُفُقِ ، وهو الصادقُ .
ويقال : طريقٌ فَجْرٌ : واضحٌ .
الرُّوحُ : ما به حياة
وقد أضاف الشاعر الفجر الى الروح ،حيث استخدم كلمة من الطبيعة الجامدة فصارت كأن بها حياة أي أن فجر=الطبيعة-جامدة- ،الروح=الحياة -حية-فجر من لوازم الطبيعة ،والروح لازم من لوازم كل مابه حياة فما علا قة هذا بذاك؟
رغم أن الروح تظاهي الفجر من حيث الحياة والحركة والقدرة إلا أن الشاعر جعلها مضافا اليه هذه هي البنية السطحية لهذا العنوان ،لكن كيف هي البنية العميقة ؟والدلالة التي يجثم عليها هذا العنوان ؟
صعب من الوهلة الأولى أن تصل إلى تفكيك هذه الشيفرة، فتلك هي سمة الشعر الحديث وبالتالي تزداد القراءة صعوبة كلما كانت الدلالات عائمة داخل نسيج النص الحديث.
لننظر إلى هذا العنوان من جهته التركيبية ونرى،فجر خبر لمبتدأ محذوف هذا ،هذه ،هو،هي وهو مضاف والروح مضاف اليه ومن هنا يتبين أن الشاعر قد استعار سمة من سمات الطبيعة ليشبه بها ما سيقوله في المتن متن القصيد،والموجود في المتن بهذه الاستعارة البعيدة الجميلة صار بمثابة انكشاف ظلمة الليل عن نور الصباح وإذا ذهبت ظلمة الليل سيتضح الطريق ثم أن الشاعر أراد بهذه الاستعارة أن لا تعود للمستعارمنه لأنه يريد لمن سيتحدث عنه في المتن أن يكون فجرا دائما ونورا دائما وبالتالي ديمومة وضوح الطريق.
لم يكتب الشاعر قصيدة فجر الروح لذاته ولم ينسب الفجر إلى روحه
إنه ينسبه إلى الروح أي روح وإلا لقال :فجر روحي وبالتالي يكون هذا الفجر مخصوصا أي خاصته هو لوحده إنه -الشاعر- يكتب بلسان الكل لكن ليس بلغتهم ومن هنا يكون الخطاب عالمي إنساني ويحق لنا الآن أن نسأل:هل يتعادل عنوان القصيدة مع القصيدة ويكون هذا الفجر كاشفا عن الظلمة الى فجر جديد منير ؟ثم هل يستحق هذا الفجر المأخوذ ةمن الطبيعة أن يكون دربا وسراجا ينير الطريق وروحا جديدة لهذه الروح روح الشاعر ،وروح كل من وجه اليه هذا الخطاب؟.
لذلك فكرت في استكمال هذا التحليل البنيوي للقصيدة *فجر الروح* بما له القدرة أكثر على الوصول إلى دلالة النص وهو المستوى الصوتي والايقاعي كي أشفي ربما غليل
الذين عابوا الدراسة التي ذكرناها .
إثرالغوص في بنية العنوان السطحية منها والعميقة سأحاول قراءة هذا النص الشعري الثري وفق منهجين :المنهج البنوي والأسلو بي -التحليل بالمستو يات- معا لكن يحق للقارئ أن يتساءل لماذا هذا الاختيار وهذه القراءة بهذه الطريقة؟.
عندما قرأت لكمال أبو ديب وكيف وظف في دراسته التحليلية -الرؤى المقنعة- وجدلية -الخفاء والتجلي- ووقوفه في القصيدة عند الثنائيات الضدية واللفظية،رأيت بعض الذين لاحظوا غياب بقية المستويات الصوتية والإيقاعية لما لهل علاقة بدلالة النص يتحفظون على هذه الدراسة .
لذلك فكرت في استكمال هذا التحليل البنيوي للقصيدة *فجر الروح* بما له القدرة أكثر على الوصول إلى دلالة النص وهو المستوى الصوتي والايقاعي كي أشفي ربما غليل
الذين عابوا الدراسة التي ذكرناها .
القصيدة
قصيدة فجر الروح للشاعر ابراهيم بشوات
أَحَقًّا هُنَا يَا أُمُّ يَرْسُمُكِ الشِّعْرُ= وَإِنْ كَانَ يَسْقِيهِ مِنَ اللُّغَةِ الْبَحْرُ
أَظُنُّ رَقِيقَ الشِّعْرِ مُنْذُ مُهَلْهِلٍ =إِلَى عَصْرِنَا بِالْكَادِ يُنْصِفُهُ الْعُشْرُ
أَرَى اللُّغَةَ الْعَصْمَاءَ تَعْجَزُ حِينَمَا= أَجِيئُكِ مُحْتَارًا فَيَحْضُنُنِي الصَّدْرُ
إِذَا امْتَدَّ بِي لَيْلٌ وَأَرَّقَ فِكْرَتِي= وَوَاعَدَنِي فَجْرٌ فَأَنْتِ هِيَ الْفَجْرُ
وَلَسْتُ أَخَافُ الْحَادِثَاتِ تُحِيطُ بِي= فَفِي مُقْلَتَيْكِ طَالَمَا كُتِبَ النَّصْرُ
لَعَلَّكِ مُنْذُ الْبَدْءِ أَحْلَى قَصِيدَةٍ =وَأَجْمَلُ مَا فِي الدَّهْرِ لَوْ يُدْرِكُ الدَّهْرُ
تَوَقَّفَ هَذَا الدَّهْرُ فِي رَقْمِ تِسْعَةٍ= لِيَعْرِفَ كَيْفَ الشَّهْرُ يَخْلُفُهُ شَهْرُ
وَوَهْنًا عَلَى وَهْنٍ حَمَلْتِ مَتَاعِبِي= ثِقَالًا يُغَذِّي عُسْرَهَا الْحَرُّ وَالْقَرُّ
وَلَكِنَّهَا يَا أُمُّ رِحْلَةُ مَوْعِدٍ= وَتَدْرِينَ أَنَّ الْعُسْرَ يَخْلُفُهُ يُسْرُ
حَيَاتَانِ يَا أُمَّاهُ أَثْمَرَ فِيهِمَا= بَرِيقٌ مِنَ الْآمَالِ وَانْتَصَرَ الصَّبْرُ
وَغَنَّتْكِ آهٌ ثُمَّ آهٌ وَأَنَّةٌ= وَمُعْجِزَةٌ مِنْهَا أَضَاءَ لَكِ الْبَدْرُ
وَفِي حُضْنِكِ الْحَانِي زُرِعْتُ خَمِيلَةً= أَضَاءَتْ جَمَالاً حِينَ قَبَّلَنِي الثَّغْرُ
سَقَانِي مَدَى الْحَوْلَيْنِ صَدْرُكِ خَيْرَهُ= وَحِينَ يَجُودُ الصَّدْرُ كَمْ يَكْثُرُ الْخَيْرُ
تَعَلَّمْتُ فِي أَحْضَانِكِ اللَّهْوَ صَافِيًا= وَحَلَّقْتُ حَتَّى غَارَ مِنْ أُفْقِيَ النّسْرُ
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ تُغْدِقِينَ سَعَادَةً =وَتَتْلِينَ آيَ اللهِ إِنْ حَسَدَ الْغَيْرُ
أَرَى مَاءَ وَجْهِي مِنْ سَوَاقِيكِ عَذْبُهُ= إِذَا ظَمِئَ الزَّيْتُونُ هَلْ يَبْخَلُ النَّهْرُ
كَتَبْتُ رَقِيقَ الشِّعْرِ عَنْكِ وَهَا أَنَا= عَلَى الصَّفْحَةِ البَيْضَاءِ يُعْوِزُنِي الْحِبْرُ
وَإِنْ هِيَ إِلاَّ نَغْمَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا= أُرَدِّدُ شِعْرًا فِيهِ يُخْتَصَرُ الْعُمْرُ
تَمُرُّ بِكِ الْأَيَّامُ لَكِنْ أُحِسُّهَا= عَلَى مَضَضٍ تَمْضِي، وَهَلْ عِنْدَهَا عُذْرُ
أَجَلْ، إِنَّهَا لَمَّا رَأَتْكِ تَعَلَّمَتْ= أَنِينَ فُؤَادٍ حِينَ يُرْهِقُهُ الْهَجْرُ
حَبِيبَةَ قَلْبِي أَنْتِ أَجْمَلُ قِصَّةٍ =عَنِ الْحُبِّ لَكِنْ لَيْسَ يَعْرِفُهَا الْفِكْرُ
أَرَانِي إِذَا وَلَّيْتُ وَجْهِيَ شَطْرَهَا= لِأَكْتُبَهَا لَمْ يَعْرِفِ الْقِبْلَةَ السَّطْرُ
وَيَحْلُو مَذَاقُ الرُّوحِ فِي كُلِّ نَبْضَةٍ= تُذَكِّرُنِي بِالْحُلْوِ يَصْنَعُهُ الْمُرُّ
وَوَصَّى بِكِ الْمَبْعُوثُ لِلنَّاسِ رَحْمَةً= ثَلَاثًا فَزَادَ الشَّأْنُ وَارْتَفَعَ الْقَدْرُ
وَلَمْ يَبْقَ لِلْمُسْتَهْتِرِينَ تَعَلُّلٌ= وَلَمْ يَبْقَ لِلْعَاصِينَ فِي ذَنْبِهِمْ عُذْرُ
وَغَايَةُ مَا أَرْجُو رِضَاكِ وَإِنَّهَا= لَجَائِزَةٌ يَحْظَى بِهَا الْوَلَدُ الْبَرُّ
هَدِيَّةُ حُبِّي يَا عَزِيزَةُ قُبْلَةٌ= تَغَنَّى بِهَا لِلْعَالَمِينَ ابْنُكِ الْبِكْرُ
إبراهيم بشوات 13 أوت 2010
يبدأ الشاعر بوضع الأم في الميزان ،حيث الأم في كفة واللغة في الكفة الأخرى، بهذه الثنائية الجميلة:- ثنائية المضاهات -يتساءل الشاعر عن مدى قدرة اللغة السطح المتمظهرة في القصيدة على
اخراج الأم كما يشتهي المتلقي العارف بحق قدرهاوذلك في تناص أجمل مع الشاعر الكبير حافظ إبراهيم ليكون الشاعر إبراهيم بشوات في هذا البيت بشوات حافظ .
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ*** فَهَلْ سَأَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفاتي
البيت للشاعر حافظ إبراهيم.
أحقا هنا يا أم يرسمك الشعر*** وإن كان يسقيه من اللغة البحر
البيت للشاعر إبراهيم بشوات.
وعندما ننتقل الى البيت الثاني من قصيدة فجر الروح للشاعر: إبراهيم بشوات ،وهو كما يلي:
أظن رقيق الشعر منذ مهلهل***إلى عصرنا بالكاد ينصفه العشر
قبل أن أتوغل لابد أن أترك بصمة شخصية لشاعرنا الكبير ككلمة أراها لابد منها فأقول:لقد أنصفت أمك يا إبراهيم بظنك في قدرة الشعر الذي يستطيع أن يصور تعظيمك لها ،فالشعر ديوان العرب كما يقال.
منذ الوهلة الأولى تظهر البنية الأولى للقصيدةحيث رغبة الشاعر كانت جامحة رغم الوضع الذي وضعت فيه الذات الشاعرة المعظمة لقدر الأم ومن هنا يمكن أن نقول أن البنية الأولى هي :بنية التعظيم والإشتياق.
توقفنا في الجزء الثالث من القراءة عند البنية الاولى: بنية التعظيم والاشتياق حيث أن الذات الشاعرة وضعت بين عظمة الأم و قدرة الشعر من عدمها على وصفها والحديث عن ماهيتها ، ويمكن لنا أن نضع المخطط الآتي للتوضيح أكثر:
الذات الشاعرة بين
عظمة الأم ................................................. قدرة الشعر من عدمها على وصف الأم
قدرة الشعر على وصفها ............................... رغبة الشاعر في البوح
إنه في الحقيقة صراع مشروع وقع فيه الشاعر فهو بين الأم التي حملته 9 أشهر ثم قامت بما يفترض بالام أن تقوم به ،لتهدي الذات الشاعرة الى فكرة قدرة الشعر على احتواء ما يختلج صدرها بالتمظهر في اللغة البحر الي ستسقي هذا الشعر دون شك .
أظن رقيق الشعر منذ مهلل*** إلى عصرنا بالكاد ينصفه العشر
فعشر العصر منذ مهلهل الى الآن ينصف الشعر ويعطيه الضوء الاخضر لأن ةيكون قادرا على احتواء أي غرض شعري كان لعل المهلهل الشاعر أيضا يعطي للشعر الاشارة والاجازة والمهلهل هو:
عدي بن ربيعة التغلبي الملقب الزير أبو ليلى المهلهل ، أحد فرسان قبيلة تغلب الذين كانت ديارهم في شمال شرق الجزيرة العربية وأطراف العراق والشام [1] وكان شاعرا يكنى بأبي ليلى بالمهلهل، وأحد أبطال العرب في الجاهلية وقد كان له من الذرية ابنتان هما: ليلى وعبيدة، فأما ليلى فهي أم الشاعر عمرو بن كلثوم التغلبي، وأما عبيدة فهي أم قوم يقال لهم عبيدة من جنب من مذحج [2] وقال البعض أن الزير خال الشاعر امرئ القيس الكندي.
لقب عدي بن ربيعة بألقاب عديدة من أشهرها:
الزير
اختلف في اسمه فقيل أن اسمه سالم ولايعرف لهذا الاسم مصدر وقيل أن اسمه عدي كما ذكر في عدة قصائد منها قصيدته الشهيرة وهو في الأسر التي كانت سببا غير مباشر في مقتله والتي قال
طَـفـَلـة ما ابْنة المجللِ*** بـيضـاء لـعـوب لـذيذة في العناقِ
فاذهبي مـا إليك غـير بـعيد*** لايؤاتي العـناق مـن في الوثاقِ
ضربت نحرها إلى وقالت*** ياعديا، لقد وقـتك الأواقي
أما تسميته بالزير فقد سماه أخوه كليب (زير النساء) أي جليسهن.
المهلهل
وقد قيل لقب مهلهلا لأنه كان يلبس ثياباً مهلهلة، وقيل لقب بسبب قوله:
لما توغل في الكراع هجينهن هلهلت أثأر مالك أو سنبلا
كما يقال أنه لقب مهلهلا لأنه هلهل الشعر أي أرقّه وهو من الشعراء الكذبة لبيت قاله وهو :
ولولا الريح أسمع أهل حجرٍ صليل البيض تقرع بالذكور
قالت فيه ابنة أخيه وهي اليمامة بنت كليب لما قتل:
من مبلغ الحيين أَنّ مُهلهلا أَضحى قتيلاً في الفلاة مُجندَّلا
وفي رواية أخرى أنه لما عاد العبدين إلى ابن أخيه الهجرس وأخته اليمامة، قالا لهما أن عمهما قال أنشدهما هذا البيت:
من مبلغ الحيين أَنّ مُهلهلا لله دركما ودر أبيكما
فلم يفهم الهجرس مغزى البيتين فنادى اليمامة فلما قال لها العبدان البيتين صاحت وقالت عمي لا يقول أبياتاً ناقصة وإنما أراد أن يقول لنا;
من مبلغ الحيين أن مهلهلا*** أضحى قتيلاً في الفلآة مجندلا
لله دركما ودر أبـيــكما*** لا يبرح العبدان حتى يقتـلا
لقد بسطت في موضوع المهلهل عنوة كي يعرف المتلقي دلالة ذكره في قصيدة فجر الروح للشاعر إبراهيم بشوات.
لم يطل الشاعر طويلا في حسم إشكالية قدرة الشعر من عدمها على اتساعه للأم بدليل أن الحديث عن تلك الإشاكلية لم يتعد البيتين.
أحقا هنا يا أم يرسمك الشعر*** وإن كان يسقسه من اللغة البحر
أظن رقيق الشعر منذ مهلهل*** إلى عصرنا بالكاد ينصفه العشر
إن البنية الأولى لا تقف عند التعظيم والاشتياق -تعظيم الأم والرغبة الشديدة في البوح من خلال قصيدة عصماء تكرم الأم فثمة بنية أخرى ترقد تحتها وهي الثقة بالنفس التي تحلت بها الذات الشاعرة لما لها من تجربة شعرية طويلة وقدرة لغوية فائقة في الحديث عن أعظم مخلوق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأم .
ألم يك البيت الخالد لحافظ إبراهيم ذا قدرة على اعطاء الأم حقها كاملا غير منقوص حين قال حافظ إبراهيم:
الأم مــدرسـة إذا أعــددتـهـــا أعـددت شعبا طيب الأعــراق
الأم روض إن تعهــده الحيـــا بالـــريّ أورق أيمـــا إيــــراق
الأم أستــاذ الأساتــذة الألــــى شغلت مآثرهم مدى الآفـــــاق
هذا ما يختص بالبنية الأولى .
فالقصيدة في عمومها تنقسم إلى بنيتين أساسيتين :
1-بنية التعظيم
2-بنية الأم-فجر الروح-
لقد تساءلت في بداية هذه القراءة عن مدى اتصال العنوان بالمتن باعتياره في القصيدة الحديثة كالرأس من الجسد فلقد وفق الشاعر إلى حد كبير في جعل العنوان قصيدة أخرى .
فالعنوان هو *فجر الروح* وفجر الروح هو أمه ،وأمه في المتن بدليل أن الشاعر خصص لها السواد الأعظم من القصيدة 25بيتا والقصيدة تتألف من 27 بيتا.
استعمل الشاعر فيها معجم الأم ك : الصدر، رق9، وهنا على وهن، حملتني…..إلخ.
ففي البنية الثانية نجد ثنائية الحضور والغياب واضحة فالشاعر حينما كرم الأم في قصيدته فقد كرم أمه الغائبة لكنها حاضرة في أم المتلقي ،فقد ضرب عصفورين بحجر في قصيدته التكريمية
هكذا يفعل كل شاعر مجيد.
لقد كانت أبيات القصيدة مسرحا بين المتكلم والغائب .
أَرَانِي إِذَا وَلَّيْتُ وَجْهِيَ شَطْرَهَا= لِأَكْتُبَهَا لَمْ يَعْرِفِ الْقِبْلَةَ السَّطْرُ
فالضمير -ها-انما يدل على ذات غائبة ،ودليل غيابها هواضطراب الذات الشاعرة كلما ولت وجهها شطر امها كي تكتبها وعدم الكتابة يكفيها حضور الأم فحضورها وحده قصيدة
كَتَبْتُ رَقِيقَ الشِّعْرِ عَنْكِ وَهَا أَنَا= عَلَى الصَّفْحَةِ البَيْضَاءِ يُعْوِزُنِي الْحِبْرُ
اضطراب فا ضطراب يحدثه المخاطب -عنك- يقصد أمه ،مرة أخطأ السطر القبلة ، ومرة أخرى عاز الذات الشعر الحبر والسؤال هنا لم كل هذا الاضطراب لو كانت أمه حاضرة
أعتقد أن حضورها سيزيل كل هذه المعاناة لذلك كانت ضمائر المتكلم والغائب والمخاطب تهيمن على بنية النص مما يدل على الغياب الذي يسعفه الحضور ،غياب أم الشاعر وحضور أم المتلقي.
وَإِنْ هِيَ إِلاَّ نَغْمَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا= أُرَدِّدُ شِعْرًا فِيهِ يُخْتَصَرُ الْعُمْرُ
تَمُرُّ بِكِ الْأَيَّامُ لَكِنْ أُحِسُّهَا= عَلَى مَضَضٍ تَمْضِي، وَهَلْ عِنْدَهَا عُذْرُ
أَجَلْ، إِنَّهَا لَمَّا رَأَتْكِ تَعَلَّمَتْ= أَنِينَ فُؤَادٍ حِينَ يُرْهِقُهُ الْهَجْرُ
حَبِيبَةَ قَلْبِي أَنْتِ أَجْمَلُ قِصَّةٍ =عَنِ الْحُبِّ لَكِنْ لَيْسَ يَعْرِفُهَا الْفِكْرُ
هي،بها ،إنها كلها ضمائر للغائب وقد طغت على بنية النص .
-هذه هي بنية الخطاب الشعري في قصيدة فجر الروح ،سننتقل إلى المستويين الصوتي والإيقاعي للنص باعتبارهما عنصرين هامين لصلتهما بدلالة النص .
فقافية القصيدة رائية، والراء من الحروف المجهورة، وقد يطرح التساؤل عن مدى ملاءمتها لغرض تشكل اللذة إحدى خصائصه، وبالتالي فإن الحروف المهموسة تبدو أقرب إلى طبيعته، والراء هي الحرف أو الصوت المركز في القصيدة، وعملية إحصائية بسيطة تؤكد ذلك، تكرر حرف الراء في البيت الأول.
حَقًّا هُنَا يَا أُمُّ يَرْسُمُكِ الشِّعْرُ= وَإِنْ كَانَ يَسْقِيهِ مِنَ اللُّغَةِ الْبَحْرُ
أَظُنُّ رَقِيقَ الشِّعْرِ مُنْذُ مُهَلْهِلٍ =إِلَى عَصْرِنَا بِالْكَادِ يُنْصِفُهُ الْعُشْرُ
أَرَى اللُّغَةَ الْعَصْمَاءَ تَعْجَزُ حِينَمَا= أَجِيئُكِ مُحْتَارًا فَيَحْضُنُنِي الصَّدْرُ
إِذَا امْتَدَّ بِي لَيْلٌ وَأَرَّقَ فِكْرَتِي= وَوَاعَدَنِي فَجْرٌ فَأَنْتِ هِيَ الْفَجْرُ
فزيادة على كون صوت الراء كان للقافية فاننا نحصي تكرر هذا الصوت عدة مرات في هذه الأبيات وتقريبا في كامل الابيات ومعنى ذلك أن هذا الصوت قد تكرر 78مرة لأان الشاعر يريد للقصيدة أن تستقر
فالموقف جلل وعظيم بعظمة الام فتكرر صوت الراء أعطى للقصيدة استقرارا ملائما للموضوع فالشاعر يتلذذ بتعظيم أمه والأم.
-البحر الطويل قد نظم منه ما يقرب من ثلث الشعر العربي، وأنه الوزن الذي كان القدماء يؤثرونه على غيره ويتخذونه ميزاناً لأشعارهم، ولا سيما في الأغراض الجدية الجليلة الشأن […]. ثم نرى كلاً من الكامل والبسيط يحتل المرتبة الثانية في نسبة الشيوع، وربما جاء بعدهما كل من الوافر والخفيف، وتلك هي البحور الخمسة التي ظلت في كل العصور موفورة الحظ يطرقها كل الشعراء، ويكثرون النظم منها، وتألفها آذان الناس في بيئة اللغة العربية” .
لذلك اتكأت القصيدة على البحر الطويل ،فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن.
يقول أبو هلال العسكري: “وإذا أردت أن تعمل شعراً فأحضر المعاني التي تريد ينظمها فكرك وأخطرها على قلبك، واطلب لها وزناً يتأتى فيه إيرادها وقافية يحتملها.. فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية ولا تتمكن منه في أخرى.. أو تكون في هذه أقرب طريقاً وأيسر كلفة منه في تلك.. ولأن تعلو الكلام فتأخذه من فوق فيجيء سلساً سهلاً ذا طلاوة ورونق خير من أن يعلوك فيجيء، قفراً فجاً ومنتجعاً جلفاً..”
لقد منح الشاعر هذا البحر امتيازا بقيمة ابداعه الشعري وقدرته على توظيف هذا البحر توظيفا موفقا وايجابيا للتعبير عن أحاسيسه تجاه أمه الغائبة الحاضرة فزيادة على كون هذا البحر مناسبا للمواضيع الجليلة كموضوع الام فإن له هيبة تتشكل من اصغاء المتلقي الذي يحس بموسيقاه العذبة التي تطرب الاذن فيزيد القصيدة جمالا على جمالها.
تمت :بقلم الاستاذ الشاعر :عمري الطاهر.